كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم علم أدبًا حسنًا في مثل هذه الواقعة فقال {لولا إذ سمعتموه ظن} فصل بين {لولا} التحضيضية وبين فعلها بالظرف لأنه يتسع في الظرف مالا يتسع في غيره تنزيلًا للظرف منزلة المظروف نفسه، ولأن الممكنات لا تنفك عن الظروف.
والفائدة فيه أن يعلم أن ظن الخير كان يجب عليهم أول ما سمعوه بالإفك، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم ومثله {ولولا إذ سمعتموه قلتم} [النور: 16] ثم لا يخفى أن أصل المعنى أن يقال: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرًا وقلتم هذا إفك. ومعنى بأنفسكم بالذين منكم من المؤمنين والمؤمنات، فعدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، ولينبه لفظ الإيمان على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدّق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا عاتب بل يقول بملء فيه بناء على ظن الخير مصرحًا ببراءة ساحته {هذا إفك مبين} وذلك أن المؤمن معه من العقل والدين ما يهديه إلى الاصلح ويؤخره عن الأقبح، ولم يوجد هذا الداعي والصارف معارض بتساويهما كما قيل: كلام العدى ضرب من الهذيان. فوجب أن لا يلتفت المؤمن إلى قول الطاعن في حق أخيه ويبقى على حسن ظنه به وهذا أدب حسن قل العامل به، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يزيد فيه. روي أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: أما ترين ما يقال؟ فقالت: لو كنت بدل صفوات أكنت تظن بحرمة رسول الله سوءًا؟ قال: لا. قلت: لو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعائشة خير مني وصفوان خير منك. وفي الآية دلالة على قول أبي حنيفة أن المسلمين عدول بعضهم على بعض ما لم يظهر منهم ريبة لأنا مأمورون بحسن الظن وذلك يوجب قبول الشهادة. ومن هنا قال أيضًا: إذ باع درهمًا ودينارًا بدرهمين ودينارين إنا نخالف بينهما لأنا قد أمرنا بظن الخير فوجب حمله على ما يجوز. ومثله إذا باع سيفًا محلى فيه مائة درهم بمائتي درهم نجعل المائة بالمائة والفضل بالسيف. وإذا وجدنا امرأة أجنبية مع رجل فاعترفا بالتزويج تصدقهما حملًا لعقود المسلمين وتصرفاتهم على الجواز والصحة. وزعم مالك أنهما يحدان إن لم يقيما بينة على النكاح. وقيل: إن الآية مختصة بعائشة لأن كونها زوجة النبي كالدليل القاطع على أن الذي قيل فيها إفك صريح. قال العلماء: يجوز أن تكون زوجة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط، ولا يجوز أن تكون فاجرة لأن الأنبياء معصومون عن المنفرات ألبتة فإن حصول المنفر معه ينافي بعثته لكن الكفر غير منفر للكفرة. قال: وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات. قيل: في تفسيره الكشخان الذي تحبب امرأته الرجال إلى نفسها. ويقال: كشخنته أي قلت له ياكشخان. ثم بالغ في زجرهم عن حديث الإفك بقوله: {لولا جاؤا} وهي أيضًا تحضيضية والمراد التفصيل بين الرمي الصادق والكاذب بثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفائها ولكن هذا العدد وكل فرد منه منتفٍ في حق عائشة فهم في حكم الله وشريعته كاذبون.
وهذا القدر كافٍ في إلزام أولئك الطاعنين وإلا فهم في نفس الأمر بالنسبة إلى هذه الواقعة كاذبون كما مر تقريره آنفًا. ثم زاد في التهديد والزجر بقوله: {ولولا فضل الله} هي {لولا} الامتناعية. قال جمهور المفسرين: لولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في هذه الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، وأن أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. وعن مقاتل أن في الآية تقديمًا وتأخيرًا والمعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بالحلم عنكم والحكم عليكم بالتوبة {لمسكم في ما} انفعتم {فيه عذاب عظيم} في الدنيا والآخرة معًا. وتلقي الإفك أخذه من أفواه القالة وقوله، والأصل تتلقونه بتاءين وقد قرئ به. كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى طار وانتشر. وفي زيادة قوله: {بأفواهكم} إشارة إلى أنه قول لا وجود له إلا في العبارة ولا حقيقة لمؤداه في الواقع. والقذف كبيرة من الكبائر كما سبق لاسيما قذف زوجة النبي وخاصة نبينا صلى الله عليه وسلم فلهذا قال {وهو عند الله عظيم} عن بعضكم أنه جزع عند الموت فقيل له فقال: أخاف ذنبًا لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم. وفي النصائح الكبار لا تقولن لشيء من سيئاتك حقير فلعله عند الله نخلة وهو عندك نقير. وصفهم في الاية بارتكاب ثلاثة آثام: تلقي الإفك والتكلم بما لا حقيقة له ولا علم به واستهانة عظيمة من العظائم، وفيه أن عظم المعصية لا يتعلق بظن فاعله بل جهله بعظمه ربما يصير مؤكدًا لعظمه. وفيه أن الواجب على المكلف أن يستعظم الإقدام على كل محرم إذ لا يأمن أن يكون عند الله من الكبائر.
ثم علمهم أدبًا آخر ومعنى {ما يكون لنا} لا ينبغي ولا يصح لنا. ومعنى {سبحانك} تنزيه الله من أن تكون زوجة نبينا الذي هو أحب خلقه إليه فاجرة، أو تنزيهه من أن يرضى بقذف هؤلاء المقربين ولا يعاقبهم، أو هو للتعجب من عظم الأمر وذلك أنه يسبح الله عند رؤية كل أمر عجيب من صنائعه فكثر حتى استعمل في كل متعجب منه. والفرق بين هذه الآية وبين قوله: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون} هو أن تلك تميل إلى العموم وهذه إلى الخصوص فكأنه بين أن هذا القذف خاصة مما ليس لهم أن يتفوهوا به لما فيه من إيذاء نبيه وإيذاء زوجته التي هي حبيبته {يعظكم الله} بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب كراهة {أن تعودوا} أو في شأن أن تعودوا {لمثله ابدًا} أي مدة حياتكم.
ولا دلالة للمعتزلة في قوله: {إن كنتم مؤمنين} على أن ترك القذف من الإيمان لاحتمال أنه للتهيج والانزجار {ويبين الله لكم} أي لانتفاعكم {الآيات} الدالات على علمه وحكمته وما ينبغي أن يتمسك المكلف به في أبواب صلاح معاشه ومعاده {والله عليم حكيم} هما صفتان مختلفتان عند المعتزلة ثانيتهما أخص من الأولى، وعند الأشاعرة الثانية للتأكيد المحض. والمراد أنه يجب قبول تكاليفه وبياناته لأنه عالم بما أمر وبما يستحقه كل مأمور، وليس في تكليفه عيب ولا عبث. ومن كان هذه صفته وجب طاعته ليثبت ولا يعاقب. استدلت المعتزلة بالآية في أنه يريد الإيمان من الكل وإلا لم يكن واعظًا ولا مبينًا آياته لانتفاعهم ولا حكيمًا لا يفعل القبائح. ولا جواب للاشاعرة إلا أنه يشاء ما يشاء ولا اعتراض عليه. ثم بين بقوله: {إن الذين يحبون} أن أهل الإفك يشاركهم في عذاب الدارين من رضي بقولهم، وأنهم كما هم مؤاخذون بما أظهروه فهم معاقبون على ما أضمروه من محبة إشاعة الفاحشة والفحشاء في المؤمنين، لأنها تدل على الدغل والنفاق وعدم سلامة القلب. والفاحشة والفحشاء ما أفرط قبحه، وشيوعها انتشارها وظهورها بحيث يطلع عليها كل أحد وخصوص السبب لا يقتضي خصوص الحكم، فهذا الوعيد شامل لكل من أراد بواحد من المؤمنين أو المؤمنات شيئًا من المضار والأذيات. وبعضهم حمل الفاحشة على الزنا وخصص ما يحب شيوع الفاحشة بعبد الله بن أبي. وخصص الذين آمنوا بعائشة وصفوان، ولا يخفى ما فيه من ضيق العطن إلا أن يساعده نقل صحيح. وعذاب الدنيا الحد واللعن والذم وما على أهل النفاق من صنوف البلاء، ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن ابي وحسانًا ومسطحًا، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف وكف بصره. وعذاب الآخرة في القبر وفي القيامة هو النار. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف قومًا يضربون صدورهم ضربًا يسمعه أهل النار وهم الهمازون اللمازون الذين يلتمسون عورات المسلمين ويهتكون ستورهم ويشيعون عليهم من الفواحش ما ليس فيهم» وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» من الخير وأما قوله: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} ففي نهاية حسن الموقع لأن الأعمال القلبية محبة الشر أو الخير لا يطلع عليها أحد كما هي إلا الله سبحانه. وإنما نعرف نحن شيئًا من ها بالقرائن والإمارات وفيه وجر عظيم لمن لا يجتهد في أن يكون قلبه سليمًا من النفاق والغل، وحصول هذا الغل في القلب غير العزم على الذنب فإن الأول ملكة والثاني حال، ولا يلزم من ترتب العقاب على الملكات ترتبه على الأحوال فافهم.
قال أبو حنيفة: المغتابة بالفجور لا تستنطق لأن استنطاقها إشاعة للفاحشة وإنها ممنوع عنها. وقالت المعتزلة: في الآية دليل على أنه تعالى غير خالق للكفر ولا مريد وإلا كان ممن يحب أن تشيع الفاحشة. ولقائل أن يقول: قياس الغائب على الشاهد فاسد. ثم كرر المنة بترك المعاجلة بالعقاب والتميكن من التلافي وبالغ فيها بذكر الرؤوف والرحيم. وجواب {لولا} محذوف على نسق ما مر. وقيل: جوابه ما يدل على ذلك في قوله: {ما زكى منكم} وهو بعيد. عن ابن عباس أن الخطاب لحسان ومسطح وحمنة والأقرب العموم. ثم نهى عن اتباع آثار الشيطان وسلوك مسالكه والاقتداء به في الإصغاء إلى الإفك وإشاعة الفحشاء وارتكاب مال تنكره العقول وتأباه. وقوله: {فإنه يأمر بالفحشاء} من وضع السبب مقام المسبب والمراد ضل. قالت الاشاعرة: في قوله: {ما زكى} بالتشديد والضمير لله وكذا في قوله: {ولكن الله يزكي} دلالة على أن الزكاء وهو الطهارة من دنس الآثام لا يحصل إلا بالله، وهو دليل على أنه خالق الأفعال والآثار. وحمله المعتزلة على منح الألطاف أو على الحكم بالطهارة، وضعف بأنه خلاف الظاهر وبأنه يجب انتهاء الكل إليه، وبأن قوله: {من يشاء} ينافي قولكم إن خلق الألطاف واجب عيه.
ثم علم أدبًا آخر جميلًا بقوله: {ولا يأتل} وهو افتعل من الألية أي لا يحلف على عدم الإحسان، وحرف النفي يحذف من جواب القسم كثيرًا فهي كقراءة من قرأ {ولا يأتل} وقيل: هو من قولهم ما ألوت جهدًا إذا لم يدخر من الاجتهاد شيئًا أي لا يقصر في الإحسان إلى المستحقين. قالوا: نزلت في شأن مسطح وكان ابن خالة ابي بكر الصديق فقيرًا من فقراء المهاجرين، وكان أبو بكر ينفق عليه. فلما فرط منه ما فرط آلى أن لا ينفق عليه فنزلت فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر، فلما وصل إلى قوله: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} قال أبو بكر: بلى أحب أن يغفر الله لي فعفا عن مسطح ورجع إلى الإنفاق عليه وقال: والله لا أنزعها أبدًا. قال الإمام فخر الدين الرازي: هذه الاية تدل على أفضلية أبي بكر الصديق من وجوه، وذلك أن الفضل المذكور في الاية لا يراد به السعة في المال والإلزام التكرار فهو الفضل في الدين ولكنه مطلق غير مقيد فثبت له الفضل على الإطلاق. تركنا العمل به في حق النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق فيبقى في الغير معمولًا به. وأيضًا ذكره الله تعالى في الآية بلفظ الجمع وإنه مشعر بالتعظيم. وأيضًا قد قيل:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ** على المرء من وقع الحسام المهند

فهذا الظلم من مسطح كان في غاية العظم وقد أمره الله تعالى بالصفح عنه، وامتثل هو فكان فيه نهاية جهاد النفس فيكون ثوابه على حسن ذلك. وأيضًا في تسميته أولي الفضل والسعة شرف تام فكأنه قيل له: أنت أفضل من أن تقابل إنسانًا بسوء وأنت أوسع قلبًا من أن تقيم للدنيا وزنًا فلا يليق بفضلك وسعة قلبك أن يقطع برك عمن اساء إليك. وأيضًا أرمه الله تعالى بالعفو والصفح وقال لنبيه {فاعف عنهم واصفح} [المائدة: 13] فهو من هذه الجهة ثاني اثنين له في الأخلاق. وأيضًا علق المغفرة بالعفو وقد حصل العفو فتحصل المغفرة ألبتة في الحال وفي الاستقبال لقوله: {أن يغفر} فهو للاستقبال فيكون كما قال لنبيه {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [الفتح: 2] وفيه دليل على حقية خلافته وإلا كان عاصيًا والعاصي في النار. وليس النهي في قوله: {ولا يأتل} نهي زجر عن المعصية ولكنه ندب إلى الأولى والأفضل وهو العفو. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل أخلاق المسلمين العفو» وعنه صلى الله عليه وسلم: «لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه» واعلم أن العلماء أجمعوا على أن مسطحًا كان مذنبًا لأنه أتى بالقذف أو رضي به على الروايتين عن ابن عباس، ولهذا حده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأجمعوا ايضًا على أنه من البدريين وقد ورد فيهم الخبر الصحيح «لعل الله نظر إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فكيف الجمع بين الأمرين؟ أجابوا أنه ليس المراد من قوله: «اعملوا ما شئتم» أنهم خارجون عن حد التكليف وإنما المراد اعملوا من النوافل ما شئتم قليلًا أو كثيرًا فقد أعطيتكم الدرجات العليات في الجنة، أو أراد حسن حالهم في العاقبة أنهم يوافون بالطاعة فكأنه قال: قد غفرت لكم لعلمي بأنكم تموتون على التوبة والإنابة. قالت الأشاعرة: في وصف مسطح ومدحه بكونه من المهاجرين دليل على أن ثواب كونه مهاجرًا لم ينحبط بإقدامه على القذف فيكون القول بالمحابطة باطلًا. استدل جمهور الفقهاء بالاية في قول من فسر الائتلاء بالحلف على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة وإنما يجوز إذا جعلت دايعة للخير لا صارفة عنه. ثم قالوا: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فينبغي له أن يأتي بالذي هو خير ثم يكفر عن يمينه كما جاء في الحديث ولقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان} [المائدة: 89] وهو عام في جانب الخير وفي غيره. ومثله ما ورد في قصة أيوب {وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به} [ص: 44] ولو كان الحنث كفارة لو يؤمر بضرب الضغث عيها. وقال بعض العلماء: إنه يأتي بالذي هو خير وذلك كفارته لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر «من حلف عليّ يمين فرأى غيرها خبرًا منها فليأت بالذي هو خير وذلك كفارته» ولأنه تعالى أمر أبا بكر في هذه الآية بالحنث ولو يوجب عليه كفارة. وأجيب بأن معنى الكفارة في الحديث تكفير الذنب لا الكفارة الشرعية التي هي إحدى الخصال، وإنما ذهبنا إلى هذا ليكون مطابقًا للحديث الآخر «من حلف عليّ يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» وأما هذه الآية فإنما لم يذكر فيها الكفارة لأنها معلومة من آية المائدة. قوله: {أن الذين يرمون المحصنات} قد مر تفسير المحصنة. وأما الغافلات فهن السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر بحسب الغريزة أو لقلة التجارب، وقد يعين على ذلك صغر السن وغير ذلك من الأحوال. قال الأصوليون: خصوص السبب لا يمنع العموم فيدخل في الآية قذفة عائشة وقذفة غيرها، وخصصه بعض المفسرين فمنهم من قال: المراد عائشة وحدها والجمع للتعظيم. ومنهم من قال: عائشة مع سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من قال: هي أم المؤمنين فجمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة المشاكلة لها في الإحصان والغفلة والإيمان. وذكروا في سبب التخصيص أن قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله: {إلاّ الذين تابوا} وأما القذف المذكور في هذه الآية فوعيده مطلق من غير استثناء. وأجيب بأنه طوى ذكر التوبة في هذه الآية لكونها معلومة. وقد يحتج للمخصص بما روي عن ابن عباس أن كان بالبصرة يوم عرفة فسئل عن تفسير هذه الآية فقال: من أذنب ذنبًا ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة. ومنهم من قال: نزلت الآية في مشركي مكة حين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، وكانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا: إنما خرجت لتفجر. أما شهادة الجوارح فلا إشكال فيها عند الأشاعرة لأنهم يقولون: البنية ليست شرطًا في الحياة فيجوز أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علمًا وقدرة وكلامًا. وقالت المعتزلة: المتكلم هو فاعل الكلام فيكون الكلام المضاف إلى الجوارح هو في الحقيقة من الله تعالى. ويجوز أن يبني الله هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ويلجئها إلى أن تشهد على الإنسان وتخبر عن أعماله. ومعنى {دينهم الحق} الجزاء المستحق. وقال في الكشاف: معنى قوله: {هو الحق المبين} العادل الظاهر العدل. وقال غيره: سمي حقًا لأنه حق عبادته أو لأنه الموجود بالحقيقة وما سواه فوجوده مستعار زائل. والمبين ذو البيان الصحيح أو المظهر للموجودات. فالحصال أنه واجب الوجود لذاته مفيد الوجود لغيره. ثم ختم الآيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة وهي قوله: {الخبيثات} يعني الكلمنات التي تخبث مواردها ويستقذرها من يخاطب بها ويمجها سمعه ككلمات أهل الإفك، ويجوز أن يراد بالخبيثات مضمون الآيات الواردة في وعيد القذفة لأن مضمونها ذم ولعن وهو يستكره طبعًا وإن كان نفس الكلمة التي هي من قبل الله سبحانه طيبًا.